fenon

الخيط – للكاتب محمد مستجاب

الخيط
من نسج العنكبوت إلى حياكة المؤامرات

اقطع خيطـه، وكـان فعـل الأمر واضحـا يكاد يكـون جزءا من معنى القدرة الحاسمة فـي الانتقام الريفي خلال فترة حياتـي الأولى، مع أن الأمر قد لا يزيد عن انفعالات مبكرة في عالـم الحـقول والبراري لا يقصد به ما جـاء فـي المعجم : خيط الرقبة يعني نخاعها، لكن ارتباط الخيط بالقتل لم يلبث أن تهاوى تاركـا المجال لذلك الخـيط الأبيض الذي يمكن أن نتبينه تفريقـا بينه وبين الخيط الأسود استقبالا لنور الأمل في الصباح الجديد، مع أنـه – عاثة ما يكون خيطا رفيعا بالغ الدقة والشاعرية يربطنا بعناصر الكـون : نحس به أكثر مما نتبينه ، ويفصل – أو يربـط – بـين الـرؤى والأحـلام والواقع ، مع غض النظر عما جاء في رواية خضعت لهذا العنوان لإحسان عبدالقدوس ، لكـنه – هـذا الخيط الرفيع – هو السحر الغامـض الـذي تتلمسه حواسنا : بالرؤية والسـماع في فنون الباليه والتحطيب والرقص الشعبي (حتى لو كـان شديد الـضجـيـج)، وفـي الـرؤية – مـع الموسيقى اللونية في لوحات الرسـم المتألقة، وفي السماع – مع قلـيل أو كثير من الخـيال – فـي الموسيقى الراقية، ثم في هذه الخيوط النورانية في الترتيل الديني الخـاشع لآيات القرآن الكريم، حيث يسبح الوجدان في التيارات الناعمة التي تحملنا إلـى الآفاق العليا، وهو ما يمكن أن نجـد أثرا منه في ذاك الخيط الدقيق الذي يسري بنا في الأعـمال الأدبيـة أو المسرحية المبدعة، والذي يمكن لك أن تحس بسحره وتستمتع بظهوره أو كمونه إذا ما كانت ذائقتك لاتزال تحتفظ بِالْإِدْرَاكِ الفطري التلـقائـي بعيدا عن حصار التدقيق القسري في مثل هذه النصوص تحـت سطوة نظريات النقد الحديث التي – وكثيرا – ما تضطرب خيوطها وتتركـنا بلا فهم بها على الإطلاق.

ومن الخيط يأتي الخائط والخياط أصحاب مهنة الخيـاطة، فـإذا ظـل الخيط في حـدود ما نـفهـمه مـن مجريات صناعة الملابس والأزيـاء فإن الأمور سوف تظـل أقـوى مـن خيوط العنكبوت، لكنك إذا تذكرت المقابل اللغوي للخياطة : الحيـاكـة، ويصبح اسم الفاعل : الحائك، فإنما الأمر سوف يتسع ليدخل في عالـم حياكة المؤامرات والخـدع وما إلـى ذلك من نسج الدسائس والوشايات والنمائم، مع أن الحية – أنثى الثعبان – إذا ما خاطت خيطا فذلك يعني أنها انسابت على الأرض بسرعة، وخاط فلان أي : مضى سريعا، أو واصل السير السريع، دون أن يلوي على شيء، إنها معان وأساليب لم نعـد نستعملها، إذ يصعب علـى روائـي معاصر أن يملك الدقة في التعبير حتى لا نقع في معنى آخر- قد يكون نقيضا لما أوردناه، حـين يـقول إن بطـلـه أخيط، أو بطلته خيطاء، ويـقصـد بذلك اختلاط الأبيض بالأسود، – إنه إِشَارَة للمشيب.

إلا أن العسس ورجال البـحـث عما يعتقدون أنه ضالتهم الكبرى ، يمسكون بأول الخيط الذي يقودهم – بعد عناء وتمحيص وتـدقـيق – إلـى الهدف، ولأن الرحلة مرهقة فإنهـم نادرا ما يتوقفون وإن اتضح لهـم أن ما وصلوا إليه ليس الهدف المأمول ، وفي البحث العلمي أو الـتحـليل الاجتماعي كثيرا ما يكـون ذلك مفيـدا، غير أن الكارثة الكبرى فـي الموضوعات الجنائية التي يرفـض أصحاب البحث فيها الاعتراف بأن الخيط الذي تشبثوا به أودى بهم – أو بغيرهم من الضحايا – إلى ما يثير الأسى، أو السخرية، أو إلى أخطر ما صنع من الخيوط في تاريخ الحياة : كفن الموتى .

والخيط – بدءا من كونه نسيـج قطن أو تيل أو صوف حتى أصبـح من مواد صناعية ( لا تتحملها بعض الأجساد ولا تطيق التلامس معها إن لم تصبح رداء المثوى الأخير) ظـل يطوق أعناق الجميلات بالعقود ذات الخرز المتراقص قريبـا من الصدر الدافئ، لكنه – أي خيط – يبدو بالغ المكـر والخداع حينـما يحـمـل السنـارة أو الشـص أو يصبح التشكيل المتداخـل في شباك صيد السـمك والـيمـام و السـمـان، الغربان والصقور تعرف ذلك وتنأى بنفسها بعيدا عن هذه المآزق، والأرقى – والأنقى – هـذه الخيوط الدقيقة التي تـفرزها دودة القز في بطء رقيق نادرا ما نحس به أو نشاهده، إننا نفقد القدرة على التعبير إِزَاء تكوين الشرنقة التي تتداخل وتتوازى شعيراتها بالـغـة الرهافة والجمال، دون اهتمـام بما ينتهي إليه أمرها، وعلى أي أجساد سيكون نسيجها، وهو أمر مختلف تماما عن خيوط – ليست من القز في معظم الأحوال – تقيم عالما من أغطية الرأس – الطواقي – والستائر وبيارق الـهتـاف ورايات الترحـيـب والمبايعة.. والاحتجاج أحـيانا ، دون الاقتراب من ذلك الـعـالـم الرحـيـب المتـمـاوج ألوانـا فـي السجاجيد والأبسطة وقصائد الغزل وأساليب التعبير الإنشائي وطلبات التراحم والإحساس الدافق بالحـب والحيـاة، والـذي كـادت الخـيوط الصناعية تـفـقـده حرارته ورقـتـه : فراشـا عـلى الأرض أو قصيدة تبـدو منمقة في عالم ما بـعـد الحـداثـة الذي لا يمكـنـك الاستمتاع بخيوطه دون أن يضطـرب أمـرك فـتـبـدو في لحظات الصدق النـادرة، والتي أتمنى فيها أن أقطع خيط صاحبها.

محمد مستجاب