fenon

الحجر – للكاتب محمد مستجاب

الحجر
في القلب .. والعين .. والحضارات

تصوّرت أنني أستطيع الدخول إلى عالم الحجر عن طريق تسلق الجدران، لكني فوجئت بأن الحجر يبدأ صفة للقلب، وأن من قلبه حجر يعني خلوّه تماماً من الرحمة والعطف، إنه البليد الجامد الذي ترمش عيونه مرة أو مرتين خلال الحرائق والصراخ وانهمار الحزن في الجوانح، والذي قلبه حجر يختلف – بالطبع – عن ذاك الذي يوصف بأن قلبه حديد لشجاعته وجرأته وقدرته الفائقة على مواجهة الرعب – دون انتفاء عنصر الإشفاق والتعاطف من وجدانه، وقد يرجع ذلك الاندماج بين القلب البليد والحجر إلى تلك العصور المبكّرة التي هيمن فيها الحجر سطوة عليها: الرسامون ومبدعو التشخيص السينمائي لايزالون يعبّرون عن إنسان العصر الحجري بذلك الشخص كث الملامح والشعر، العاري، والذي يسحب جسد أنثى بالغة الفتنة من شعرها، لتنسحل فوق ظهرها على امتداد البسيطة الحجرية ( أرجو أنك مازلت تتذكر لفظ البسيطة بما يعنيه من الحياة في الدنيا المبكرة – وليست القائمة الآن)، وكنت قد أيقنت – من نصائح أمي وإرشاداتها التي دامت أقل من مليون عام بسنوات معدودة – أن إراحة رأس الميت في منامه الأخير داخل مقبرته يجب أن يكون على الرمل الحنون، وقد رأيت وشاركت في ( ترييح ) عدد يفوق التصوّر الأدبي من رءوس الزملاء والمعارف أثناء العمل في مشروع السد العالي بأسوان: كومة الرمل الحنون تصبح وسادة لراحة الرءوس المرهقة – دون الحجر الصلب الجاف الذي يخلو من التعاطف، غير أن أمي سحبت تعليماتها الريفية خلال السنوات المرهقة التالية، فقد فوجئت بجثمان الشاعر العظيم صلاح عبدالصبور يدخل خطأ إلى مقبرته بقدميه مما جعلني أتدخل وبسرعة ليصبح طقس الولوج الجثماني – أو الجسماني – للراحة الأخيرة سليما، بعدها هالني أن أرض المقبرة نظيفة، خالية تماماً من الرمل أو التراب أو أي عنصر حنون آخر، وظلت بضعة أحجار من الأركان ترمقني – وترمق تعليمات أمي – بنوع من السخرية، وفي حال اندفاع أحمق بالغ الحكمة حطّمت بعض البارز من الجدران الهشّة التي كانت قد أعدت سريعاً، ارتاح فارس الشعر الحديث مستلقياً برأسه على كومة حزن ترابي عطوف، والأحجار المتناثرة تكاد تتحوّل إلى عملاء للمباحث يرصدون سلوكي.غير أن أمر قسوة القلب تنزاح للخلف لتترك للعين ارتباطاً شريراً بالحجر، والذي عينه تفلق الحجر اعتقاد شائع بين الجماعات البشرية في كل القارات: من جليد الاسكيمو شمالاً مروراً بأنواع الأجناس الآرية والسكسونية والحامية والسامية والبوشمن والهنود الحمر حتى الجماعات المتعلقة في دوائر نهايات أستراليا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، إنه هذا الفرد – ذكراً أو أنثى – الذي يدخل مكاناً ليرمق في حسد المصابيح المتلألئة – كمثال – فتنفجر جميعها – واحداً واحداً – في انزعاج سطوة تلك العين التي تفلق الحجر، ويذهب ضحيتها – في حوادث فردية لا تنسى – أبقار وغزلان وعرائـس ليـلة الزفـاف، مـع عدد لا يُستهان به من العيال الناجحين في المدارس، لكن ذلك لم يطف في بال شمبليون – ذلك الفرنسي القادم من ( جرنوبل ) إلى بلادنا فتى عالماً ذا عيون ثاقبة ليفك طلاسم اللغة الهيروغليفية عن طريق اختراق نقوش حجر رشيد خلال عامي 28و1829، لتنزاح بعد ذلك أسرار أحجار الهياكل القديمة وتفيض بأسرار حضارات مصر وبابل والفينيق والرومان والإغريق والفرس، لكن هذا العالم الفرنسي ذا الذكاء المتوقد لم ينتبه إلى حجر الزاوية في مجازات لغاتنا الفصحى والعامية، والذي يقصد به ( مربط الفرس) أو النقطة الأساسية في منطق الأمور، والذي يأخذ تشكيله البدائي – والفطري – في ذلك الحجر الذي تعوّدنا أن يضعه أهلنا على رءوس المساحات لقياس نصيب كل فرد عند الميراث أو البيع أو التصالح، وربما كان حجر الزاوية قادماً من أثر الحجر الأسود الشهير الذي وضعه النبي إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – في الركن الشرقي من الكعبة عندما رفعا قواعدها، وقد أعاد النبي العظيم محمد – صلى الله عليه وسلم – وضعه حين أعادت قريش بناء الكعبة، والذي يرمز لحكمة الرسول الكريم في فض الخلاف وإشاعة السلام بين قبائلها التي كانت تتسابق على شرف وضعه، والذي – هذا الحجر – تبدأ من عنده مناسك الحج بالطواف حول الكعبة المشرّفة.

بعد ذلك، يصبح المرور على الأحجار الأخرى مجرد خطوات تؤدي إلى حجر الأنابيب الذي يستعمله الهنود الحمر في صنع غليون التدخين، والأحجار الجيرية والرملية والنارية ( الجرانيت والبازلت) ثم هناك أنواع من الحجر السمّاقي – أي الإمبراطوري – والديوريت، وأنا مثلك الآن – تماماً – لا أعرف الفرق بين كل تلك الأحجار، أليس من اللائق الآن أن نتوقف عن تحريك الأحجار خشية ظهور العقارب، فنعود إلى فكرة تسلق الحوائط ?

محمد مستجاب