fenon

الثور .. وثورات أخرى – للكاتب محمد مستجاب

الثور .. وثورات أخرى

أحسست بحرج يصل إلى حد الاضطراب حينما اقتربت من (الثور) ومادته الغزيرة الطافحة في القرى والوديان, فإذا بهذا الثور يلقي بي في (الثورة) بصفتها أنثاه من الناحية اللغوية الخالصة مستبعدا البقرة: الأنثى الواقعية, وهو أمر شائع حينما تتخلّق الأنثى بحروف تصنع لها عالما لغويا له إيقاع وصدى مختلفان عن سطوة المذكر: الجمل والناقة, الأسد واللبؤة, الرجل والمرأة, الثعبان والحية, الرفق والشفقة, أما أن يقودني الثور إلى الثورة بصفتها حالة هياج فقط: يصبح صعباً أن أغمض عيني عن حياتي وتاريخي ومفاهيمي وكتابتي وإدراكي النقدي – أو التذوقي – للنصوص الأدبية – في الشعر والقصة, دون استبعاد اللوحات الفنية والأبنية الموسيقية. إن الثورية المتأججة في الوجدان تحتاج إلى نوع من الفصل بينها وبين الثور حتى أجعلك تحس بالارتياح معي – حتى لو كان مؤقتا, كي يباح لنا أن ندرك أن الثورة تعني الكثرة, يقال: ثورة من رجال, وثورة من مال, كما أن ثورة الشفق: ما انتشر منه, إنها حمرة الشفق عندما يبدأ الليل في الزحف ضاغطاً على النهار لإزاحته من عالم النور, ولعل ثور الشفق الممتد في الآفاق بحمرته الداكنة الساحرة هو أكثر المشاهد تأثيراً في النص الأدبي منذ الأبد, حتى أن الثور يعني انبعاث الشيء قبل أن يصبح جنسا من الحيوان: ثار البركان ثم ثارت الفتنة, وثار فلان: اشتعل غضباً, وثارت نفسه أي تجشأت – ربما بسبب أمراض القولون العصبي المبكرة في الذكر بالذات حينما يمعن في غضب مكتوم على مساحة تضاريس وجه أنثاه, وقد يتطور الأمر صاعداً من أمعاء البطن إلى (الفريصة): يقوم الرجل ثائرا فريصته: أي عصب الرقبة وعروقها التي تنتفخ – منذ الأزل – عند الغضب, وتودي به إلى الحالات العصرية – والثورية – التي نعاني منها الآن, مع أن التراب – أقصد الغبار, له ثورة لا تقل شأنا عن ثورة الدخان والجراد, والطحالب أيضا حتما تنتشر على وجه الماء الساكن أو الهائج.

ويبدو أن الثور سيظل يتراجع أمام اجتياح أنثاه حتى ينتهي به الأمر إلى تلك الأطباق الشهية ذات الرائحة المخترقة لمنطقة الاشتهاء في الخياشيم, في حين تنشط أنثاه – الثورة – لتداهم الرأس الإنساني لينتشر الشعر ويتفرق, وثورة الماء من البئر تتوازى بانفعال أقل حدة من ثورة البركان, وثورة البعير من مبركه – أي المكان الذي يبرك فيه – تعني انبعاثه واقفا, وعندما تثور الحصبة بفلان: أي بدأت تنتشر, ويحتل الفلاح من الثورة ما يسمح له بأن يحرث الأرض ويقلّبها تمهيدا لزراعتها, وفي سورة البقرة {قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} – آية 71 – وعندما يعود الفلاح كي يثير الأرض فإنما يقصد أن يصمم لاستخراج بركاتها منها, أما إثارة الأمر فتعني بحثه, ومدارسته وبالذات في التقارير السرية غير المعلنة في المؤتمرات والاجتماعات ودورات المجالس النيابية, المحلية والدولية.

إلاّ أن الثور يعود خلسة – على غير ما تعود من سلوك هائج ثائر – ليحمل اسمه ثور بن عبد مناة بن عدنان, وهو من العصر الجاهلي قبل ظهور الإسلام, وكانت منازل أهله حول جبل ثور الذي به الغار الذي لجأ إليه الرسول الكريم بعد ذلك في أثناء هجرته من مكة إلى المدينة, وقد حمل أهل ابن عبد مناة هذا الاسم, أما أبو ثور فهو إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي, وهو فقيه من أصحاب الإمام الشافعي, وكان ذا علم وفقه وورع وفضل, وقد صنّف الكتب, ومات ببغداد شيخاً بعد أن وضع الكثير من الآراء في الخلاف بين الإمامين: مالك والشافعي, أما الثوري سفيان بن سعيد من بني ثور أيضا, فقد نشأ في الكوفة, وراوده المنصور العباسي كي يلي الحكم بعده, فأبى رافضا أن يقع في خضم السطوة والسلطة, وانتقل إلى البصرة مستخفيا ليموت فيها دون أن يعرفه أحد, وله من الكتب الجامع الكبير والجامع الصغير.

وقبل ظهور الثورة بأحقاب كان الثور يعني: السيد, والمهيمن على الأسرة أو القبيلة, وبه كُني عمرو بن معد يكرب, ثم لم يلبث شأن الثور أن امتد إلى معان تنزل به من السمو والعلو إلى صفة الأحمق, بل وتدنى إلى البليد الفهم, والمجنون كما هو معروف أيضا, وقد يدعونا ذلك إلى التقاط أنفاسنا, والإمعان في هدوء إلى الوجود, وأن نبتسم قليلا, وألاّ نستبعد أجزاء الثور المتبّلة في الطبق الشهي, وأجزاء الثورة أيضا

كلمات لها معنى

كل جرح له خطورته, أشدها خطراً تلك الجراح التي لا تنزف دماً, جراح القلب بالذات.
ليس هناك أعمق تأثيرا من نظرة رقيقة في وجهك الغاضب من طفلة لا تجيد الكلام, طفلتك على وجه الخصوص.
أول من وصل إلى قمة الجبال: الطيور والحشرات, في دقائق أو ساعات, والإنسان أيضا خلال عدة أيام أو شهور – أو سنوات.
لا أعرف حتى الآن السبب الكامن وراء اضطراب أصابعي حينما أوقع على أوراق تسلم النقود.
أفكر في رواية ممتعة, أنجح عبرها في جمع كل عواصم العالم في منطقة واحدة, تاركا بقية الشعوب كي تستمتع بالدنيا الصافية دون عواصم.
محمد مستجاب