fenon

البئـر – للكاتب محمد مستجاب

البئـر

عين الماء والأمل في الصحراء

ورد لفظ البئر مرة واحدة في القرآن الكريم فكأيِّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مَشيد الآية 45 من سورة الحج، والبئر المعطلة رمز قوي للخراب والعقم وبؤس الحياة، وفي واحة كركر ـ غرب أسوان في الجنوب المصري ـ بئر معطلة لها عمق مظلم أصابني بالدوار، وتشير بقايا لافتة باللغة الإنجليزية ـ على حافة هذه البئر ـ بعدم استعمال مائها مما يعني أنها خضعت ـ ذات عصر ـ لنوع من السموم كانت القوات البريطانية المحتلة تلقي بها في آبار يحتمل أن تصبح تحت يد الأعداء ـ الألمان أيامها، ومن الغريب أن النباتات والأشجار القريبة من هذه البئر كانت تعاني من جفاف شديد لم يلحق بغيرها من تلك النامية بعيداً . وأي بئر ـ في الصحراء بالذات ـ تثير في النفس الإحساس العميق بالأمل، غير أن أموراً أخرى لا يسهل إخفاؤها ـ بالنسبة لي، فقد ظلت البئر سرداباً غويطاً يحمل في جوفه واقعة الانتقام فتكاً بصبي ـ في قريتنا ـ حينما كنا نتلمس الطريق إلى المدرسة في المرحلة المبكرة، ولا تزال هذه البئر داخل أعصابي تتسرب بين صحراء وأخرى في قصصي وكتاباتي وحكاياتي، وقد حاولت أن أتصور أن هذه البئر ـ من باب الأمل ـ هي الجب التي رأى إخوة النبي يوسف أن يلقوا به فيها ـ بديلاً لقتله، لتنقذه الرفقة السائرة ـ أي السيارة لتبدأ سيرة النبي يوسف في التصاعد، بئر مرحلتي الصبيانية لم يحدث فيها ما يشير إلى هذا الأمل.

وأزعم أن أحداً لم ينج من السقوط في بئره الخاصة التي أعطاها عالما النفس: فرويد وأدلر اهتماما كشف ما في الإنسان من أغوار، أو هكذا ـ بعد إذابة همزة الياء لتمتد في لهجة الحكايات صانعة امتدادها المذهل، نعرفها جيدا في قصص ألف ليلة وليلة ومرتفعات وذرنج “اميلي برونتي” والتي يتعدد مستوى عمقها في الأخوة كرامازوف لديستويفسكي وتجد لها أثرا في ثلاثية نجيب محفوظ، مع أن عوامل أخرى قامت بالتخفيف من كل هذه المعاني القاسية حينما استطاعت الجعة ـ هذا المشروب خفيف الكحوليات ـ أن تعابث البئر مستعيرة منه لفظ “بيرة”، مع أن بيرة جاك مدينة على الضفة اليسرى على نهر الفرات كانت حصنا عربيا إبان غزو المغول للشام في القرن 13، أما مدينة “بيرا” في موزمبيق ـ جنوب شرق إفريقيا فهي على المحيط الهندي أخذت نفس اللفظ دون اهتمام بما يجول في خاطرنا عن البئر أو البيرة، وهذا لا دخل له بما حاق باسم بيراندللو ـ الشاعر والروائي والمؤلف المسرحي الإيطالي “جائزة نوبل 1934” والذي حاز شهرته الكبرى بسبب ما أحدثه من كسر للإيهام المسرحي في “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”، وقد يؤدي بنا ذلك إلى ما نتصوره واقعا تحت سطوة البئر لنتوه بين الصحارى، مع أن البئر المعاصرة قامت على فتحات آبار البترول التي أحدثت في النظام العالمي تأثيرات أعادت صياغة العديد من نظريات الاقتصاد والسياسة، وما نتج عنها من حروب أيضا.

وثمة رواية تحمل ـ في الأدب العربي ـ عنوانا مباشرا من أشهر أعمال احسان عبدالقدوس: بئر الحرمان، وأخرى لفيصل الحوراني: بير الشوم، أما سلك البيرة فهو نوع من الحبال المعدنية المرنة التي تستخدم في توثيق حمولات المقطورات والشاحنات، ولا تزال بيرو دولة لها وضعها المتميز غربي أمريكا الجنوبية، كما أن شارل بيرو شاعر فرنسي كتب مجموعة قصص شهيرة في الأدب الغربي تحمل صياغة جديدة وجميلة عن قصص “الجمال الناعس” و”سندريلا” و”ذو اللحية الزرقاء” تحت عنوان: قصص وخرافات من الأزمنة القديمة، وهي ذات القصص التي تسللت من التدوين إلى الصياغة الموسيقية في الأوبرا ـ و ـ الباليه.

إنني أحاول أن أبدو مثقفا كي ابتعد بكم عن بير السلم في البيوت والعمارات وما حدث فيه من كوارث صغيرة بالغة الوخز، أو السخرية، مع أن بير السلم قد يكون أهون مما جرى في بير العبدـ في شبه جزيرة سيناء ـ أثناء الاحتلال الإسرائيلي، أما الهدوء النفسي ـ وما نبحث عنه من سلوان ـ فإنه يتسلل إلينا من بئر زمزم بالمسجد الحرام قريبة من الكعبة المشرفة ـ حيث يقع بينهما مقام النبي إبراهيم عليه السلام، وماء زمزم نتهادى به نحن المسلمين، وقد تم تحليل هذه المياه في العصر الحديث فظهر أنها تتميز بفوائد وتأثيرات صحية تفوق المياه المعدنية الشهيرة في وسط أوربا ـ على وجه الخصوص، وهذا ما يجعلنا نتشمم الطريق الوردي بعيدا عما حاق بنا من آبار أخرى.

محمد مستجاب