fenon

أبرخت دورر بين اللون والخط

Durer

بقلم آلاء نجم

أبرخت دورر هو رسّام و حفار ألماني. 14711528 و قد أبحر بريشته داخل النفس البشرية ليخرج لنا أدق تفاصيل الشخصيات التى صورها . و ألتف بأزميله حول تلافيف المشاعر و الأحاسيس أكثر مما رسم الحركات لالأجسام . لقد أبدع الفنان ألبرخت دورر أعمال تصوير زيتية غاية فى الأنسيابية و الجمال تعبر عن ريشة فنان ذو حس مرهف . وكان ألبرخت الابن الثالث من ثمانية عشر ولدا مات معظمهم في سن الطفولة وتعلم في مرسم أبيه كيف يرسم بالقلم الرصاص والفحم والريشة و كذلك كيف يحفر بالمنقاش، ودرب نفسه على قوة الملاحظة وتمثيل  الأشياء والموضوعات بتفصيل لا يعرف الملل حتى كانت كل مشاعره و احساسه يحاكى الواقع بأدق تفصيله ..

كان الوالد يأمل أن يخلفه ابنه في حرفته كصائغ وكانت رغبة ألبرخت أن يتوسع في نطاق فنه

و أمام رغبة الأبن العارمة و أشتياقه لتعلم الفن أرسله الأب إلى “فولجيموت” ليتمرن هناك وتدرج ألبرخت في عمله ببطئ ومكنت له عبقريته في الطموح والمثابرة والصبر.

وقال: “لقد حباني الله بفضيلة الجد فحسن تعليمي ولكني اضطررت أن أتجاوز عن قدر كبير من الإزعاج الذي سببه لي أعوانى”.
ونظراً لأنه لم تسنح له فرصة كبيرة لدراسة الجسم العاري فإنه تردد على الحمامات العامة ورسم أجساماً في جمال “أبولو” وذلك بقدر ما سمحت له الظروف .
و وصفه أحد أصدقائه أن له جسم رائع متين البناء معتدل القوام جدير بما يحمله من عقل نبيل وجهه ذكي الملامح وعينان تلمعان وصدر عريض وخصر نحيل ومنكبان قويان وساقان ثابتتان  أما يداه ففي وسعك أن تقول إنك لم تر قط يدين تمبزهما في الرشاقة أما حديثه فعذب و مثير حتى ليتمنى المرء ألا ينتهي أبداً من الحديث معه .

ثم اجتذبته أعمال الحفر التي قام بها “الفنان  شونجاور” فاتخذ طريقه إلى ” مديتة كولمار”  وإذا به يجد الأستاذ قد مات فتتلمذ على يد أخيه ثم رحل وتعلم من “جرونيفالد” أسرار الفن الديني الخالص و قد أصبح رساماً بارعاً وعمل طبعة من رسائل” سان جيروم ” و هى أكبر دور النشر فى ذلك الوقتو التى نشرت في مدينة  “بازل”  على صفحتها الأولى صورة شخصية للقديسين رسمها دورر ، ونالت هذه الصورة استحسان النقاد حتى تنافس ناشرون عدة للحصول على أعماله المستقبليية .

و رغم نجاحه و شهرته فإن أباه حثه على العودة للوطن عام 1495 ليتزوج من الفتاة التي اختارها له أثناء غيابه وبالفعل قد عاد إلى ” نورمبرج”  واستقر هناك وعاش مع زوجته “أجنس فراي” .

و فى عام 1507 ذهب إلى إيطاليا مرة أخرى و قام هذه المرة عام و نصف .

درس ألبرخت دورر أعمال الفنان “ماتنيا وسكوارسيوني” في “مدينة بادو” ونسخ في تواضع بعض الرسوم وسرعان ما اعترف به الفنان ” بليني “و كان من أشهر فنانى إيطاليا وقت ذاك و أيضا أعترف به فنانون آخرون كرساما بارعا ونالت لوحة “عين أكاليل الورد”، التي رسمها لكنيسة ألمانية الاستحسان حتى من الإيطاليين، وكانوا لا يزالون يعدون معظم الألمان برابرة وعرض عليه سيد البندقية منصبا دائماً إذا أقام هناك ولكن زوجته وأصدقاءه ألحوا عليه في العودة إلى ” نورمبرج”  و بالفعل قد عاد .
وانتهى الأسلوب القوطي في رسم ألبرخت بهاتين الرحلتين اللتين قام بهما دورر إلى إيطاليا، وهكذا قبل الجيل الألماني الذي رفض أن يتبع روما في الدين و أن يسير على نهج إيطاليا في الرسم.
وظل دوررفي حالة توتر وقلق ، وإذ اتسم بالتردد بين العصور الوسطى وعصر النهضة، وبين الاتجاه الصوفي الألماني والإقبال الإيطالي على الدنيا ولم تتغلب في روحه أبدا بهجة الحياة التي رآها في إيطاليا على التأمل في الموت.

و رسم ألبرخت صخور وجداول و ماء وأشجاروجياد وكلاب وخنازير و وجوها قبيحة وأشكالا قميئة وكائنات خيالية لها شكل عجيب أو مروع  وقدم من أعماله معرضا حقيقيا للحيوان .

وصور حياة الناس وأعمالهم في الريف بنشوة وفكاهة ، وكان يحب الألمان فرسم رؤوسهم الضخمة وسمات وجوههم التي تنزع إلى الحمرة دون احتجاج .
و “لالبرخت دورر” ست وثلاثون صورة شخصية تعد من أحسن أعماله التي تقرأها العين ويسر بها القلب لأنها بسيطة و تحاكى الشخص بتفاصيل شخصيته و ليس ملامحه فقط .

انظر إلى صورة “هيرونيموس هولتسشوهر” عضو مجلس الشيوخ في “نورمبرج” فصوره  برأس ينم على القوة ووجه صارم الملامح وشعر ناحل على جبهة عريضة ولحية مهذبة في تناسق تام وعينان حادتان كأنه يرقب بهما السياسيين، ومع ذلك فإن فيهما شروق و بريق.
وقلما تجد في صور من رسمهم من الذكور رقة  وهي تخلو من الرشاقة وإن ظهرت فيها دائماً قوة الشخصية. قال: “إن ما لا يفيد في الرجل ليس جميلا” .

وكان يهتم بالواقع وحكايته بأمانة أكثر من اهتمامه بجمال القسمات أو الشكل، وقد أشار إلى أن الفنان يستطيع أن يرسم بالرصاص أو يصور بالزيت صورة جميلة لشيء قبيح أو لموضوع كريه.

لم يكن الرسم ينسجم مع ذوقه ولكن زيارته لإيطاليا أثارت في رغبته في أن ينشد اللون والخط معاً .

و أصبح ألبرخت يرسم ما لا يمكن تصويره مثل النار وأشعة الضوء والرعد والبرق وكل الأحاسيس والانفعالات في رقة وعقل الإنسان بأسره وهو يعكس نفسه بسلوك الجسد.

وقد خلف لنا “دورر” أكثر من ألف صورة معظمها يعد معجزات من التصميم الواقعي أو المعبر عن الورع أو الخيال الخارق، وبعضها صور هزلية صريحة وإحداها تصور السن والحكمة في دقة متناهية ومن آن لآخر يكون الموضوع من ذلك النوع الذي لا ينبض بالحياة، كما في لوحة الطاحونة ، أو مجرد خضرة خالصة مثل لوحة ” المرج”، أو حيواناً مثل صورة رأس فيل البحر.

وتحتشد عادة النباتات والوحوش حول أشخاص أحياء كما في اللوحة المركبة “السيدة العذراء مع حشد من الحيوانات” و أما الموضوعات الدينية فهي أقل أعماله نجاحاً ومع ذلك فإننا يجب أن نستثني ونقدر اللوحة الرائعة المسماة “يدا رسول يصلي” .

قد حول دورر نحو 250 من رسوماته إلى أعمال من الخشب المحفور المنحوت و100 إلى حفر، وهاتان المجموعتان تمثلان أروع جانب يستحق التقدير من تراثه وقد حفر بنفسه التصميمات .

ثم عهد فيما بعد بحفر الخشب إلى آخرين ولولا هذا التعاون لما أستطاع أن يصور مثل هذا القطاع الواسع من الحياة وقد بدأ بتصوير رسوم لكتب مثل الفارس “فون تورن”و”الطيش” “لسباستيان برانت”.
ورسم بعد عشرين عاماً صوراً هامشية لكتاب الصلوات الخاص “بماكسمليان”.

وجرب ريشته في رسم الجسم العاري ونجح نجاحاً عظيماً في لوحة “حمام الرجال” ولم يبلغ الشأن نفسه في صورة “حمام النساء” وقد أفاد في كليهما كدافع ثوري للفن الألماني الذي كان قد أعرض عن رسم الجسم العاري باعتباره عملاً فاضحاً أو تبديداً للأوهام ، واشتهرت أعمال الحفر في الخشب التي صورت حياة العذراء وآلام المسيح عند الصلب .
فقد صور النساء المتعبدات التى يتأملن وهن يصطلين بجوار مدافئهن و صورة أخرى مطبوعة تبين خطبة يوسف ومريم .

وكان الألمانيون العمليون يسرهم أن يجدوا في صورة إقامة العائلة المقدسة في مصر بكل التفاصيل المريحة للألفة والجد فمريم تحيك الثياب ، ويوسف يعمل وهو جالس على دكته، وأطفال عليهم مسحة ملائكية يحضرون الحطب دون أن يطلب أحد ذلك منهم .

و أيضا سبع وثلاثون صورة من أعمال حفر الخشب الصغيرة “آلام المسيح الصغرى”- وإحدى عشرة صورة أكبر”آلام المسيح الكبرى” وعرضت قصة تعذيب المسيح ووفاته في آلاف البيوت ونبه شوق الرأي العام لترجمة “لوثر” للعهد الجديد و يعد أهم لوحات الحفر على خشب “الفرسان الأربعة في سفر الرؤيا ” و”القديس مايكل يقاتل التنين” وكانت من النضارة والوضوح بحيث ظل لذهن الألماني قرونا طويلة يفكر في سفر الرؤيا كما عبر عنها “دورر” برسومه.

وتجاوز مرحلة حفر الخشب إلى فن يحتاج إلى مزيد من الجهد هو فن النقش، وحاول النقش بالإبري و هى أداة حفر على المعدن وكان عادة يعمل بإزميل وأيضا نقش على النحاس .

وبرزت إناث عاريات في روعة لم يسبق لها مثيل في الفن الأماني من المعدن، وذلك في صورة “وحش البحر” و”الصراع بين الفضيلة واللذة”، بخلفية من المناظر الخلوية رسمت ببراعة.

أما الستة عشرة صورة من الحفر والتي تكون “آلام المسيح منقوشة” فإنها أقل تأثيراً من صورة “تعذيب المسيح” المحفورة على الخشب، ولكن صورة القديس ” ايوستاس” فهي مجموعة من الرسوم الحية : خمس كلاب وجواد وغابة وحشد من الطيور وسلسلة من القلاع فوق تل وغزال يحمل صليباً بين قرنيه، ويتوسل إلى الصياد أن يعفيه من القتل ويغريه بأن يصبح قديساً.
وعندما عاد دورر إلى ” نورمبرج” وقف حياته كلها تقريبا على الفن الذي يتسم بالطابع الديني، مع الاهتمام الفائق بالأناجيل من جديد.
ظل يعمل حتى نهاية عمره و قد مات بالغا من العمر السبعة و الخمسين و قد ترك من الرسوم و الصور المحفورة و النقوش ما يعين عائلته العيش بيسر.

و يتضح لنا من عرض حياة الفنان “ألبرخت دورر” أتسامه بالجدية و الميول للجانب الانسانى

و الايجابى فى حياته الشخصية و التى أنعكست أيضا على أسلوبه الفنى و الأنتقال بفنه من الأسلوب الحركى إلى الأسلوب الحسى و الشعورى .

كما أتضح أنه فنان تميز برقة مشاعره من خلال لوحاته و أعماله التى يخرج منها الدفءو الراحة و التى تستغرق وقت لتقرئها ثم تستنتع بها .